الصَّليب في الكتاب المقدَّس
مقدمة
نجد الصَّليب في صور عدد من الحضارات القديمة (بابل...) في العبريَّة: ص ل ب. واليونانيَّة: ستافروس. عُرف الصَّليب في الشَّرق الأوسط كما في آسية الصُّغرى ومصر حيث يرمز إلى الحياة، لكن مع موت يسوع صار الصَّليب أهمّ علامة بالنِّسبة إلى المسيحيّ
جاء الصَّلب من بلاد فارس، فاستعمله اليونان والرُّومان من أجل الحكم بالإعدام على العبيد وعلى اللارومانيين. اعتبر الكتّاب القدماء (هيرودوتس، بلوترخس، تاقيتس، يوسيفوس) الصَّلب بربريًّا، فأسبقوه بالعذاب أو بالجلد. أمَّا في زمن يسوع، ذكّر صليبُ يسوع الموت القاسي الَّذي قاساه اليهود المتمردّون على الَّذي احتلّ أرضهم[1]. أمَّا في العهد القديم فقد أشار إلى أداة العذاب بشكل وتد حيث كانوا يضعون عليه المحكوم عليهم بالموت ويرفعونهم[2]. وهناك حديث عن تعليق جثَّة في شجرة مع ما في هذا العذاب من عار[3]. هناك عارضة يحملها المحكوم عليه بالموت إلى موضع العذاب، في خارج المدينة. تُثبَّت على قمّة عمود. أمَّا طريقة هذا التَّثبيت فجاءت مختلفة في الصور
أوَّلاً: لاهوت الصَّليب
منذ صلب يسوع، صار الصَّليب صورة عن الحياة المسيحيّة الموافقة لحياة يسوع[4]. الصَّليب هو علامة فداء البشر بالمسيح الَّذي تحمّل من أجلهم جميعًا العذاب والإهانات وموت العار[5]. بدا الصَّليب جهالة في نظر العالم وشكًّا لليهود[6]. بالصَّليب صار يسوع "لعنة من أجلنا"[7]. ومع ذلك "فالبشارة بالصَّليب" هي "قدرة الله"[8] لمن يكتشف الخلاص[9]. وهكذا رمَز الصَّليبُ في نظر المسيحيّ إلى نسيان كامل للذَّات في الالتزام على خطى يسوع[10]: فحين يحمل المسيحيّ صليبه مع يسوع[11] يشارك في الخلاص الَّذي اقتناه يسوع[12] المسمَّر على "الخشبة"[13] في اتّحاد مدهش معه[14]. لهذا صار الصَّليب في الرَّمزيّة المسيحيّة[15] "شجرة الحياة" الَّتي يتحدَّث عنها العهد القديم[16
ثانيًا: صليب يسوع المسيح
لقد مات يسوع مصلوبًا فأصبح الصَّليب الَّذي كان أداة للفداء مع الموت والألم والدَّم أحد الأركان الأساسيَّة الَّتي تساعد على تذكيرنا بخلاصنا، إنَّه لم يعد عارًا بل أصبح مطلبًا وعنوانًا للمجد، للمسيح أوَّلاً ثمَّ للمسيحيين من بعده
كان صليب يسوع بأربع "أذرع" لأن لقب الصَّليب أو إعلان الحكم بالاعدام وُضع فوق رأس المصلوب[17]. تحدّث القدماء (يوسيتينوس الحوار مع تريفون، 91 :12؛ ايريناوس، ضد الهراطقة 2 /24 :4؛ ترتليانس، ضد مرقيون 3 :18) عن مسندة تسند جسد المعذَّب بين ركبتيه. أمّا ما وُضع تحت قدمي يسوع، فهذا لا يتوافق مع الاركيولوجيا. لا شكّ في أن صليب يسوع كان عاليًا، لأن الجندي احتاج إلى قصبة مع الزُّوفى ليعطيه ليشرب[18]. وقد أوردت الأناجيل كلمات يسوع على الصَّليب
ثالثًا: عثار الصَّليب
إننا ننادي بمسيح مصلوب، عثار لليهود وحماقة للوثنيين[19]. بهذه الكلمات يعبِّر بولس عن ردِّ الفعل الطَّبيعي لكلِّ إنسان يجد نفسه أمام صليب الفداء. تُرى أيأتي الخلاص للعالم اليونانيّ الرُّومانيّ عن طريق الصَّلب، عن هذا العذاب المعد للعبيد (راجع فيلبِّي 2: 8)، والَّذي لم يكن موتًا وحشيًّا فحسب، بل عارًا أيضًا[20]؟ ترى أيحصل اليهود على الفداء عن طريق جثَّة، تلك النَّجاسة الَّتي كان يتحتَّم التَّخلُّص منها في أقرب وقت[21]، بواسطة محكوم عليه بالموت، معلَّق على خشبة التَّعذيب، يحمل علامة اللعنة الإلهيَّة على عاتقه[22]؟ على الجلجلة، كان لهو الحاضرين استهزاءً به، يدعوه إلى أن ينزل من على الصَّليب[23]. وأمَّا عن التَّلاميذ، فيمكننا أن نتصوَّر ردَّ فعلهم المتوَّج خوفًا. أمَّا بطرس فلم يكن رغم اعترافه توًّا بأنَّ يسوع هو المسيح، يتحمَّل ولا حتى الإخبار عن آلامه وموته[24]: فكيف كان بإمكانه أن يقبل بالصَّلب؟ ولذا فإن يسوع في عشيَّة آلامه يعلن بأن الجميع سيشكُّون فيه[25
رابعًا: سرّ الصَّليب
إذا كان يسوع ومن بعده تلاميذه، لم يخففوا من عثار الصَّليب، فلأن سرّ ما خفيًّا كان يضفي عليه معنى. فقبل الفصح، كان يسوع وحده الَّذي يؤكِّد ضرورته تحقيقًا لطاعة مشيئة الآب[26]. وأمَّا بعد العنصرة فيعلن التَّلاميذ بدورهم وقد أنيروا بمجد القائم من بين الأموات عن هذه الضَّرورة، واضعين عثار الصَّليب في مكانه الحقيقيّ في تدبير قصد الله. وإن كان المسيح قد صُلب[27]، و"علِّق على خشبة"[28]، عن طريق معثرة[29]، فقد كان ذلك على الأرجح بسبب بغض إخوته. أمَّا بعد أن أوضحت النبوءة هذا الحادث، فإنَّه يكتسب بُعدًا جديدًا: فإنَّهُ يتمِّمُ "ما كُتب عن مصير المسيح"[30]. من أجل ذلك فإنَّ الرِّوايات الإنجيليَّة عن موت يسوع تحوي بين طيَّاتها إشارات كثيرة إلى المزامير[31]: "كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام" وفقا للكتب المقدَّسة، كما سيوضح ذلك القائم من بين الأموات لتلميذي عمَّاوس[32
خامسًا: لاهوت الصَّليب
لقد تلقَّى بولس عن التَّقليد الأصليّ أن "المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب"[33]. إنَّ هذا المعطى التَّقليديّ يقدّم لتأمّله اللاهوتيّ نقطة انطلاق، إذ إنَّه باعترافه بأنَّ في الصَّليب "الحكمة" الحقيقيَّة، لا يريد أن يعرف إلاَّ يسوع مصلوبًا[34]. فبذلك تضيء لمعانًا حكمة تدبير الله؟ الَّتي سبق وأعلن عنها العهد القديم[35]. فمن خلال ضعف الإنسان تظهر قوةِّ الله[36]. وبفضل توسُّعه في هذه النَّظرة الأساسيَّة يكشف بولس معنى لأوضاع الصَّليب ذاتها. فإذا ما "علّق يسوع على عود شجر" كملعون، إنما كان ذلك ليشترينا من لعنة الشَّريعة[37]. وأما جثَّتـه المعروضة على الصَّليب، وهو جسد شَبيه بجسد الخطيئة"، فقد أتاحت لله أن "يحكم على الخطيئة في الجسد"[38]، وبذا فأنَّ صكَّ الشَّريعة فقد نفذ، إلاَّ أنَّ الله في الوقت نفسه قد "ألغى الصَّكَّ بتسميره على الصَّليب، وخلع أصحاب الرِّئاسة والسُّلطة"[39]. وعلى هذا النَّحو فإنَّ الله قد صالح كل الكائنات "بدم صليبه"[40]، مزيلاً كلَّ الانقسامات القديمة الَّتي كان سببها الخطيئة، وأقام السَّلام والوحدة بين اليهود والأمم، لكي لا يكونوا بعد إلاَّ جسدًا واحدًا[41]. فيرتفع الصَّليب إذن فوق الحدود الفاصلة بين تدبيري العهد القديم والعهد الجديد
سادسًا: الصَّليب ارتفاع نحو المجد
إنَّ الصَّليب في فكر يوحنَّا لم يعد مجرّد ألم أو مذلَّة فحسب -حتى ولو أنَّه كذلك تكون له قيمته بفضل تدبير الله ومفاعيله الخلاصيَّة-، بل إنَّه منذ الآن يحقِّق مجد قدرة الله مقدَّمًا. وعلى كل فإنَّ التَّقليد السَّابق لم يكن لذكر الصَّليب، إلاَّ ويشير بعده إلى تمجيد يسوع. ولكن بالنِّسبة ليوحنا، فإنَّ يسوع ينتصر به فورًا. وعندما يردّد للدَّلالة عليه نفس اللفظ الَّذي كان يشير حينئذ إلى رفع يسوع إلى السَّماء[42]، يوضح أنَّ به أذنت اللحظة الَّتي فيها "رفع"[43] ابن الإنسان، كحيَّة نحاسيَّة! علامة للخلاص[44]. في رواية يوحنَّا للآلام، يبدو يسوع وكأنَّه يتقدّم لملاقاة آلامه بعظمة وعزَّة. إنَّه يصعد على الصَّليب منتصرًا، لأنَّهُ بالآلام يؤسِّسُ كنيسته "لافظًا الرُّوح"[45]، وجاعلاً الدَّم والماء يجريان من جنبه[46]. فمن الآن وصاعدًا ينبغي "النَّظر إلى ذاك الَّذي طعنه"[47]، لأنَّ الإيمان يتَّجه نحو ذلك المصلوب الَّذي جعل صليبه علامة حيّة للخلاص. وبهذه الرُّوح نفسها، يبدو أن كتاب الرُّؤيا قد رأى من خلال هذه "الخشبة" المخلِّصة، "خشبة الحياة"، ومن خلال "شجرة الصَّليب" "شجرة الحياة"[48
سابعًا: الصَّليب علامة المسيحيّ وصليب المسيح
إن كتاب الرُّؤيا بإنبائه بأنَّ الشَّاهدين قد استشهدا "حيث صلب المسيح"[49]، يوحّد بين مصير التَّلاميذ ومصير المعلِّم. ذلك ما كان بتطلُّبه يسوع في حينه: "من أراد أن يتبعني، فليزهد في نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني"[50]. فينبغي للتِّلميذ ألاَّ يموت في ذاته فحسب: فإنَّ الصَّليب الذي يحمله هو العلامة على أنَّه يزهد في الدُّنيا أيضًا، وأنَّه قد قطع كل علاقاته الطَّبيعية[51]، ويقبل وضعه كمضطهَد قد تنزع منه الحياة، إلاّ أن الصَّليب في الوقت نفسه هو أيضًا علامة مجده المسبق[52
ثامنًا: الحياة المصلوبة
إنَّ صليب المسيح الذي يفصل بحسب بولس، بين عالمَي الشَّريعة والإيمان، يصبح في قلب المسيحيّ، الحد الفاصل بين عالم الجسد وعالم الرُّوح. إن تبريره الوحيد وحكمته الوحيدة. على أنّ المسيحي إذا كان قد اهتدى، فقد حدث ذلك لأنَّه قد ترسمت نصب عينيه صورة المسيح المصلوب[53]. وإن كان قد تبرَّر، فلم يكن ذلك بفضل الأعمال بحسب الشَّريعة، بل بإيمانه بالمصلوب. لأنَّه هو ذاته قد صلب مع المسيح في المعمودية، إلى حدِّ أنَّه قد مات عن الشَّريعة ليحيا لله[54]، ولم يعد له أي تعلُّق بالعالم[55]. ومن ثمَّ فإنَّه يضع ثقته في قوَّة المسيح وحدها، وألاَّ فإنَّه سيظهر بمظهر هو "عدو صليب المسيح"[56
تاسعًا: الصَّليب عنوان مجد للمسيحي
"إنَّ الإنسان القديم قد صلب"[57]، في حياة المسيحي اليوميَّة، إلى حدّ أنَّه قد صار يتمتَّع بحريَّة كاملة إزاء الخطيئة. إن حكمه قد تغيَّر أيضًا بقوَّة حكمة الصَّليب[58]. بواسطة هذه الحكمة، سيصير على مثال يسوع، متواضعًا و"مطيعًا حتَّى الموت، الموت على الصَّليب"[59]. وعليه بوجه عام أن يتأمَّل "مثال المسيح" الَّذي حمل خطايانا في جسده على خشبة الصَّليب، لكي نعرض عن خطايانا، فنحيا للبر[60
خاتمة
أخيرًا إذا صح أنَّه واجب عليه أن يخشى احتمال الردَّة، الَّتي قد تقوده إلى "صلب ابن الله ثانية لخسرانه"[61]، فإنَّهُ يستطيع مع ذلك أن يصرخ بفخر مع بولس: "أمَّا أنا فمعاذ الله أن أفتخر إلاَّ بصليب ربِّنا يسوع المسيح. وعندي أصبح العالم به مصلوبًا، وأصبحتُ أنا مصلوبًا به عند العالم"[62
[1] (أع 5 :37)
[2] (تك 40 :19؛ 41 :13؛ عد 25 :4)
[3] (تث 21 :22؛ يش 8 :29؛ 10 :26)
[4] (مت 10 :38)
[5] (فل 2 :8؛ عب 11 :26؛ 12 :2؛ 13 :13)
[6] (1كور 1 :23؛ غل 5 :11)
[7] (غل 3 :13؛ رج تث 21 :23)
[8] (1كور 1 :18)
[9] (غل 6 :14)
[10] (غل 5 :24)
[11] (مر 8 :34)
[12] (كولوسي 1 :20)
[13] (أع 5 :30؛ 10 :39؛ 13 :29؛ 1بط 2 :24)
[14] (غل 2 :19-20)
[15] (يو 19 :34؛ رؤ 2 :7؛ 22 :2)
[16] (تك 2 :9؛ 3 :22؛ مز 1 :3)
[17] (مت 27 :37)
[18] (يو 19 :29)
[19] (1 كورنتس 1: 23)
[20] (راجع عبرانيين 12: 2، 13: 13)
[21] (يشوع 26:10، 2صموئيل 21: 9- 11، يوحنا 19: 31)
[22] (تثنية 21: 22- 23، غلاطية 3: 13)
[23] (متى 27: 39-44)
[24] (متى 16: 21- 23، 17: 22- 23)
[25] (متى: 26: 31)
[26] (متى 16: 21)
[27] (أعمال 2: 23، 4: 10)
[28] (أعمال 5: 30، 10: 39)
[29] (راجع تثنية 21: 23)
[30] (أعمال 13: 29)
[31] (متى 27: 33- 60، يوحنا 19: 24 و28 و36- 37)
[32] (لوقا 24: 25 - 26)
[33] (1 كورنتس15: 3)
[34] (1كور 2: 2)
[35] (1كور1: 19- 20)
[36] (1كور1: 25)
[37] (غلاطيا 3: 13)
[38] (روما 8: 3)
[39] (كولسي 2: 14 - 15)
[40] (كولوسي1: 20)
[41] (أفسس 2: 14- 18)
[42] (أعمال 2: 33، 5: 31)
[43] (يوحنا 8: 28، 12: 32- 33)
[44] (يوحنا3: 14، راجع عدد 21: 4- 9)
[45] (يوحنا 19: 30)
[46] (يوحنا 19: 34)
[47] (يوحنا 19: 37)
[48] (رؤيا 22: 2 و14)
[49] (رؤيا 11: 8)
[50] (متى 16: 24)
[51] (متى 10: 33- 39)
[52] (راجع يوحنا 12: 26)
[53] (غلاطيا 3: 1)
[54] (غلاطيا 2: 19)
[55] (غلاطيا 6: 14)
[56] (فيلبي 3: 18)
[57] (رومة 6: 6)
[58] (1 كورنتس 2)
[59] (فيلبي 2: 1- 8)
[60] (1 بطرس 2: 21- 24)
[61] (عبرانيين 6: 6)
[62] (غلاطية 14:6)
مقدمة
نجد الصَّليب في صور عدد من الحضارات القديمة (بابل...) في العبريَّة: ص ل ب. واليونانيَّة: ستافروس. عُرف الصَّليب في الشَّرق الأوسط كما في آسية الصُّغرى ومصر حيث يرمز إلى الحياة، لكن مع موت يسوع صار الصَّليب أهمّ علامة بالنِّسبة إلى المسيحيّ
جاء الصَّلب من بلاد فارس، فاستعمله اليونان والرُّومان من أجل الحكم بالإعدام على العبيد وعلى اللارومانيين. اعتبر الكتّاب القدماء (هيرودوتس، بلوترخس، تاقيتس، يوسيفوس) الصَّلب بربريًّا، فأسبقوه بالعذاب أو بالجلد. أمَّا في زمن يسوع، ذكّر صليبُ يسوع الموت القاسي الَّذي قاساه اليهود المتمردّون على الَّذي احتلّ أرضهم[1]. أمَّا في العهد القديم فقد أشار إلى أداة العذاب بشكل وتد حيث كانوا يضعون عليه المحكوم عليهم بالموت ويرفعونهم[2]. وهناك حديث عن تعليق جثَّة في شجرة مع ما في هذا العذاب من عار[3]. هناك عارضة يحملها المحكوم عليه بالموت إلى موضع العذاب، في خارج المدينة. تُثبَّت على قمّة عمود. أمَّا طريقة هذا التَّثبيت فجاءت مختلفة في الصور
أوَّلاً: لاهوت الصَّليب
منذ صلب يسوع، صار الصَّليب صورة عن الحياة المسيحيّة الموافقة لحياة يسوع[4]. الصَّليب هو علامة فداء البشر بالمسيح الَّذي تحمّل من أجلهم جميعًا العذاب والإهانات وموت العار[5]. بدا الصَّليب جهالة في نظر العالم وشكًّا لليهود[6]. بالصَّليب صار يسوع "لعنة من أجلنا"[7]. ومع ذلك "فالبشارة بالصَّليب" هي "قدرة الله"[8] لمن يكتشف الخلاص[9]. وهكذا رمَز الصَّليبُ في نظر المسيحيّ إلى نسيان كامل للذَّات في الالتزام على خطى يسوع[10]: فحين يحمل المسيحيّ صليبه مع يسوع[11] يشارك في الخلاص الَّذي اقتناه يسوع[12] المسمَّر على "الخشبة"[13] في اتّحاد مدهش معه[14]. لهذا صار الصَّليب في الرَّمزيّة المسيحيّة[15] "شجرة الحياة" الَّتي يتحدَّث عنها العهد القديم[16
ثانيًا: صليب يسوع المسيح
لقد مات يسوع مصلوبًا فأصبح الصَّليب الَّذي كان أداة للفداء مع الموت والألم والدَّم أحد الأركان الأساسيَّة الَّتي تساعد على تذكيرنا بخلاصنا، إنَّه لم يعد عارًا بل أصبح مطلبًا وعنوانًا للمجد، للمسيح أوَّلاً ثمَّ للمسيحيين من بعده
كان صليب يسوع بأربع "أذرع" لأن لقب الصَّليب أو إعلان الحكم بالاعدام وُضع فوق رأس المصلوب[17]. تحدّث القدماء (يوسيتينوس الحوار مع تريفون، 91 :12؛ ايريناوس، ضد الهراطقة 2 /24 :4؛ ترتليانس، ضد مرقيون 3 :18) عن مسندة تسند جسد المعذَّب بين ركبتيه. أمّا ما وُضع تحت قدمي يسوع، فهذا لا يتوافق مع الاركيولوجيا. لا شكّ في أن صليب يسوع كان عاليًا، لأن الجندي احتاج إلى قصبة مع الزُّوفى ليعطيه ليشرب[18]. وقد أوردت الأناجيل كلمات يسوع على الصَّليب
ثالثًا: عثار الصَّليب
إننا ننادي بمسيح مصلوب، عثار لليهود وحماقة للوثنيين[19]. بهذه الكلمات يعبِّر بولس عن ردِّ الفعل الطَّبيعي لكلِّ إنسان يجد نفسه أمام صليب الفداء. تُرى أيأتي الخلاص للعالم اليونانيّ الرُّومانيّ عن طريق الصَّلب، عن هذا العذاب المعد للعبيد (راجع فيلبِّي 2: 8)، والَّذي لم يكن موتًا وحشيًّا فحسب، بل عارًا أيضًا[20]؟ ترى أيحصل اليهود على الفداء عن طريق جثَّة، تلك النَّجاسة الَّتي كان يتحتَّم التَّخلُّص منها في أقرب وقت[21]، بواسطة محكوم عليه بالموت، معلَّق على خشبة التَّعذيب، يحمل علامة اللعنة الإلهيَّة على عاتقه[22]؟ على الجلجلة، كان لهو الحاضرين استهزاءً به، يدعوه إلى أن ينزل من على الصَّليب[23]. وأمَّا عن التَّلاميذ، فيمكننا أن نتصوَّر ردَّ فعلهم المتوَّج خوفًا. أمَّا بطرس فلم يكن رغم اعترافه توًّا بأنَّ يسوع هو المسيح، يتحمَّل ولا حتى الإخبار عن آلامه وموته[24]: فكيف كان بإمكانه أن يقبل بالصَّلب؟ ولذا فإن يسوع في عشيَّة آلامه يعلن بأن الجميع سيشكُّون فيه[25
رابعًا: سرّ الصَّليب
إذا كان يسوع ومن بعده تلاميذه، لم يخففوا من عثار الصَّليب، فلأن سرّ ما خفيًّا كان يضفي عليه معنى. فقبل الفصح، كان يسوع وحده الَّذي يؤكِّد ضرورته تحقيقًا لطاعة مشيئة الآب[26]. وأمَّا بعد العنصرة فيعلن التَّلاميذ بدورهم وقد أنيروا بمجد القائم من بين الأموات عن هذه الضَّرورة، واضعين عثار الصَّليب في مكانه الحقيقيّ في تدبير قصد الله. وإن كان المسيح قد صُلب[27]، و"علِّق على خشبة"[28]، عن طريق معثرة[29]، فقد كان ذلك على الأرجح بسبب بغض إخوته. أمَّا بعد أن أوضحت النبوءة هذا الحادث، فإنَّه يكتسب بُعدًا جديدًا: فإنَّهُ يتمِّمُ "ما كُتب عن مصير المسيح"[30]. من أجل ذلك فإنَّ الرِّوايات الإنجيليَّة عن موت يسوع تحوي بين طيَّاتها إشارات كثيرة إلى المزامير[31]: "كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام" وفقا للكتب المقدَّسة، كما سيوضح ذلك القائم من بين الأموات لتلميذي عمَّاوس[32
خامسًا: لاهوت الصَّليب
لقد تلقَّى بولس عن التَّقليد الأصليّ أن "المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب"[33]. إنَّ هذا المعطى التَّقليديّ يقدّم لتأمّله اللاهوتيّ نقطة انطلاق، إذ إنَّه باعترافه بأنَّ في الصَّليب "الحكمة" الحقيقيَّة، لا يريد أن يعرف إلاَّ يسوع مصلوبًا[34]. فبذلك تضيء لمعانًا حكمة تدبير الله؟ الَّتي سبق وأعلن عنها العهد القديم[35]. فمن خلال ضعف الإنسان تظهر قوةِّ الله[36]. وبفضل توسُّعه في هذه النَّظرة الأساسيَّة يكشف بولس معنى لأوضاع الصَّليب ذاتها. فإذا ما "علّق يسوع على عود شجر" كملعون، إنما كان ذلك ليشترينا من لعنة الشَّريعة[37]. وأما جثَّتـه المعروضة على الصَّليب، وهو جسد شَبيه بجسد الخطيئة"، فقد أتاحت لله أن "يحكم على الخطيئة في الجسد"[38]، وبذا فأنَّ صكَّ الشَّريعة فقد نفذ، إلاَّ أنَّ الله في الوقت نفسه قد "ألغى الصَّكَّ بتسميره على الصَّليب، وخلع أصحاب الرِّئاسة والسُّلطة"[39]. وعلى هذا النَّحو فإنَّ الله قد صالح كل الكائنات "بدم صليبه"[40]، مزيلاً كلَّ الانقسامات القديمة الَّتي كان سببها الخطيئة، وأقام السَّلام والوحدة بين اليهود والأمم، لكي لا يكونوا بعد إلاَّ جسدًا واحدًا[41]. فيرتفع الصَّليب إذن فوق الحدود الفاصلة بين تدبيري العهد القديم والعهد الجديد
سادسًا: الصَّليب ارتفاع نحو المجد
إنَّ الصَّليب في فكر يوحنَّا لم يعد مجرّد ألم أو مذلَّة فحسب -حتى ولو أنَّه كذلك تكون له قيمته بفضل تدبير الله ومفاعيله الخلاصيَّة-، بل إنَّه منذ الآن يحقِّق مجد قدرة الله مقدَّمًا. وعلى كل فإنَّ التَّقليد السَّابق لم يكن لذكر الصَّليب، إلاَّ ويشير بعده إلى تمجيد يسوع. ولكن بالنِّسبة ليوحنا، فإنَّ يسوع ينتصر به فورًا. وعندما يردّد للدَّلالة عليه نفس اللفظ الَّذي كان يشير حينئذ إلى رفع يسوع إلى السَّماء[42]، يوضح أنَّ به أذنت اللحظة الَّتي فيها "رفع"[43] ابن الإنسان، كحيَّة نحاسيَّة! علامة للخلاص[44]. في رواية يوحنَّا للآلام، يبدو يسوع وكأنَّه يتقدّم لملاقاة آلامه بعظمة وعزَّة. إنَّه يصعد على الصَّليب منتصرًا، لأنَّهُ بالآلام يؤسِّسُ كنيسته "لافظًا الرُّوح"[45]، وجاعلاً الدَّم والماء يجريان من جنبه[46]. فمن الآن وصاعدًا ينبغي "النَّظر إلى ذاك الَّذي طعنه"[47]، لأنَّ الإيمان يتَّجه نحو ذلك المصلوب الَّذي جعل صليبه علامة حيّة للخلاص. وبهذه الرُّوح نفسها، يبدو أن كتاب الرُّؤيا قد رأى من خلال هذه "الخشبة" المخلِّصة، "خشبة الحياة"، ومن خلال "شجرة الصَّليب" "شجرة الحياة"[48
سابعًا: الصَّليب علامة المسيحيّ وصليب المسيح
إن كتاب الرُّؤيا بإنبائه بأنَّ الشَّاهدين قد استشهدا "حيث صلب المسيح"[49]، يوحّد بين مصير التَّلاميذ ومصير المعلِّم. ذلك ما كان بتطلُّبه يسوع في حينه: "من أراد أن يتبعني، فليزهد في نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني"[50]. فينبغي للتِّلميذ ألاَّ يموت في ذاته فحسب: فإنَّ الصَّليب الذي يحمله هو العلامة على أنَّه يزهد في الدُّنيا أيضًا، وأنَّه قد قطع كل علاقاته الطَّبيعية[51]، ويقبل وضعه كمضطهَد قد تنزع منه الحياة، إلاّ أن الصَّليب في الوقت نفسه هو أيضًا علامة مجده المسبق[52
ثامنًا: الحياة المصلوبة
إنَّ صليب المسيح الذي يفصل بحسب بولس، بين عالمَي الشَّريعة والإيمان، يصبح في قلب المسيحيّ، الحد الفاصل بين عالم الجسد وعالم الرُّوح. إن تبريره الوحيد وحكمته الوحيدة. على أنّ المسيحي إذا كان قد اهتدى، فقد حدث ذلك لأنَّه قد ترسمت نصب عينيه صورة المسيح المصلوب[53]. وإن كان قد تبرَّر، فلم يكن ذلك بفضل الأعمال بحسب الشَّريعة، بل بإيمانه بالمصلوب. لأنَّه هو ذاته قد صلب مع المسيح في المعمودية، إلى حدِّ أنَّه قد مات عن الشَّريعة ليحيا لله[54]، ولم يعد له أي تعلُّق بالعالم[55]. ومن ثمَّ فإنَّه يضع ثقته في قوَّة المسيح وحدها، وألاَّ فإنَّه سيظهر بمظهر هو "عدو صليب المسيح"[56
تاسعًا: الصَّليب عنوان مجد للمسيحي
"إنَّ الإنسان القديم قد صلب"[57]، في حياة المسيحي اليوميَّة، إلى حدّ أنَّه قد صار يتمتَّع بحريَّة كاملة إزاء الخطيئة. إن حكمه قد تغيَّر أيضًا بقوَّة حكمة الصَّليب[58]. بواسطة هذه الحكمة، سيصير على مثال يسوع، متواضعًا و"مطيعًا حتَّى الموت، الموت على الصَّليب"[59]. وعليه بوجه عام أن يتأمَّل "مثال المسيح" الَّذي حمل خطايانا في جسده على خشبة الصَّليب، لكي نعرض عن خطايانا، فنحيا للبر[60
خاتمة
أخيرًا إذا صح أنَّه واجب عليه أن يخشى احتمال الردَّة، الَّتي قد تقوده إلى "صلب ابن الله ثانية لخسرانه"[61]، فإنَّهُ يستطيع مع ذلك أن يصرخ بفخر مع بولس: "أمَّا أنا فمعاذ الله أن أفتخر إلاَّ بصليب ربِّنا يسوع المسيح. وعندي أصبح العالم به مصلوبًا، وأصبحتُ أنا مصلوبًا به عند العالم"[62
[1] (أع 5 :37)
[2] (تك 40 :19؛ 41 :13؛ عد 25 :4)
[3] (تث 21 :22؛ يش 8 :29؛ 10 :26)
[4] (مت 10 :38)
[5] (فل 2 :8؛ عب 11 :26؛ 12 :2؛ 13 :13)
[6] (1كور 1 :23؛ غل 5 :11)
[7] (غل 3 :13؛ رج تث 21 :23)
[8] (1كور 1 :18)
[9] (غل 6 :14)
[10] (غل 5 :24)
[11] (مر 8 :34)
[12] (كولوسي 1 :20)
[13] (أع 5 :30؛ 10 :39؛ 13 :29؛ 1بط 2 :24)
[14] (غل 2 :19-20)
[15] (يو 19 :34؛ رؤ 2 :7؛ 22 :2)
[16] (تك 2 :9؛ 3 :22؛ مز 1 :3)
[17] (مت 27 :37)
[18] (يو 19 :29)
[19] (1 كورنتس 1: 23)
[20] (راجع عبرانيين 12: 2، 13: 13)
[21] (يشوع 26:10، 2صموئيل 21: 9- 11، يوحنا 19: 31)
[22] (تثنية 21: 22- 23، غلاطية 3: 13)
[23] (متى 27: 39-44)
[24] (متى 16: 21- 23، 17: 22- 23)
[25] (متى: 26: 31)
[26] (متى 16: 21)
[27] (أعمال 2: 23، 4: 10)
[28] (أعمال 5: 30، 10: 39)
[29] (راجع تثنية 21: 23)
[30] (أعمال 13: 29)
[31] (متى 27: 33- 60، يوحنا 19: 24 و28 و36- 37)
[32] (لوقا 24: 25 - 26)
[33] (1 كورنتس15: 3)
[34] (1كور 2: 2)
[35] (1كور1: 19- 20)
[36] (1كور1: 25)
[37] (غلاطيا 3: 13)
[38] (روما 8: 3)
[39] (كولسي 2: 14 - 15)
[40] (كولوسي1: 20)
[41] (أفسس 2: 14- 18)
[42] (أعمال 2: 33، 5: 31)
[43] (يوحنا 8: 28، 12: 32- 33)
[44] (يوحنا3: 14، راجع عدد 21: 4- 9)
[45] (يوحنا 19: 30)
[46] (يوحنا 19: 34)
[47] (يوحنا 19: 37)
[48] (رؤيا 22: 2 و14)
[49] (رؤيا 11: 8)
[50] (متى 16: 24)
[51] (متى 10: 33- 39)
[52] (راجع يوحنا 12: 26)
[53] (غلاطيا 3: 1)
[54] (غلاطيا 2: 19)
[55] (غلاطيا 6: 14)
[56] (فيلبي 3: 18)
[57] (رومة 6: 6)
[58] (1 كورنتس 2)
[59] (فيلبي 2: 1- 8)
[60] (1 بطرس 2: 21- 24)
[61] (عبرانيين 6: 6)
[62] (غلاطية 14:6)