غدّارة أبو سعيد
في قديم الزمان، أيام كانت بيوت القرى بدائيَّةً يسهُل على الآذان اختراقُها وسَماع ما يحدُث في داخلها، والناس يَخشون الفضيحة أكثر مما يخشون العقارب والذِّئاب، والرجال يتباهون بالبُطولات وبامتلاك الخناجر والغدّارات، حدثَ أنّ قريةً بدأت تُهاجمها الثعالب وتأكل العنب والدجاج. اتفق أهلها على تكليف أبو سعيد بالحراسة لأنه قويّ البُنية ويملك غدّارة
كان أبو سعيد فضوليًّا، فأخذ في كلّ ليلة يقف تحت نوافذ البيوت ويَسترق السَّمع إلى ما يَدور من أحاديث، وفي الصباح يُخبر زوجته زهرة، التي كانت في الصبحيّات تُخبر بعض النساء ما تسمعُه من زوجها، فتَنتشر الأخبار وتُفضَح الأسرار. وكان أبو سعيد يستمتع بعمَله، وعندما يُشاهد ثعلبًا كان يُطلق النار في الهواء من دون أن يَقتله، ليبقى في وظيفته ويَستمر في التنصّت على أحاديث أهل القرية
وذات يوم ذاع الخبر أنّ رستم أفندي وصل إلى القرية من اسطنبول، وهو نازلٌ في بيت المختار. لم يُصدِّق أبو سعيد متى يأتي الليل حتى يكتشف سرّ القادم الجديد. فذهب إلى "وظيفته" باكرًا في تلك الليلة، ووقف تحت نافذة بيت المختار، يستمع إلى ما يُقال
ويا للهول! فما سمعه أطار صوابه، ولم يَستطع أن يَستمرّ في الاستماع، فسدّ أذنيه وراح يَعدو بعيدًا. ومثل مَجنون لا يدري ماذا يَفعل، أخذ يُطلق النار من غدّارته في الهواء، طلقةً بعد أُخرى، حتى اعتقدَ أهل القرية أنّ هناك هجومًا كبيرًا للثعالب
ما سمعه أبو سعيد من أسرار في عتمة ذلك الليل يَفوق في هَوله، بلا قِياس، الأسرار التي سمعَها منذ استلامه الحراسة. وما سمعه أطار صوابه. سمع رستم أفندي يُخبر صديقه الحميم المختار أنّه لا يزال يحبّ زهرة، وهو على علاقة غرام بها منذ عشرين عامًا، وهي حبلت منه، لكنّه رفض أن يتزوّجها فغادر إلى اسطنبول. وعرَفَ- ويا للعار- أنّ سعيد هو ابن رستم أفندي! وأنّ زهرة بعد حبَلها خدعت أبو سعيد وتزوّجته، لأنه كان مُغرمًا بها، بينما هي لا تُحبُّه، وأنها خانته وقابلت رستم أفندي عدَّة مرّات بعد الزواج
دخل أبو سعيد منْزله وهو يُطلق النار من غدّارته، ويلعَن ويكيل الشتائم لزوجته، التي أدركت للفور أنّ فُضول زوجها، كعادته، قَاده إلى معرفة السرّ الذي ترتعد فرائصُها لمجرّد التفكير بأنّه سيُكشَف يومًا. وفَهِمَ لماذ تمارضت في تلك الليلة، فقد كان قَصدُها أن تُثنيه عن الخروج خشية أن يَسترق السمع تحت بيت المختار ويعرف السرّ الذي دفنته في صدرها منذ عشرين عامًا
أدركت أمّ سعيد مَغزى عودة رستم أفندي، لأنّ العاطفة التي تربطُهما جارفة، والشهوة نارٌ آكلة لم تَقوَ على إخمادها السنوات العشرون. ولم تقرأ زهرة في كلّ ما حدَث سوى تجدّد حبّ رستم أفندي المضطرم لها. ذلك الشعور جعلها عديمة الاكتراث لردّة فعل زوجها، فلم تخشَ شيئًا مما قام به. بل إنّ ما حدث زادها حبًّا لرستم أفندي ورغبةً جارفة في لقائه
هرولت أم سعيد إلى خارج المنْزل، وأبو سعيد يَعدو وراءها وهو يُطلق النار في الهواء ويصرخ بأعلى صوته: "يا عشيقة رستم أفندي، يا خائنة، عليك ألف لعنة! هكذا إذن! سعيد ليس ابني يا عاهرة." كان المـَشهدُ فريدًا، لم يرَ أهل القرية مثله، وهم يَستمتعون به أيَّما استمتاع، أكثر بكثير مما كانوا يَستمتعون بالأسرار التي كان أبو سعيد يَبوحُ بها
ضاعت زهرة في عتمة الليل، ولم يستطع أبو سعيد اللحاق بها، فعاد أدراجه. ولا يَدري أحد ما إذا كانت زهرة التقت رستم أفندي في تلك الليلة. لكن لم يُسمَع عنها شيء بعد ذلك
قَبلَ طلوع الفجر غادر رستم أفندي القرية خشية الفضيحة، لأنه كان متزوّجًا. وأدرك أهل القرية ما كان يَعمله أبو سعيد، وكيف كان يَسرق أسرارهم. أما الآن، فلو وقف تحت نوافذ منازلهم، لما سمع سوى قصَّة واحدة: قصَّة ما حدَثَ في تلك الليلة المشؤومة التي انقلبت عليه سمًّا زُعافًا، وقصّة غَرام زوجته برستم أفندي وحبَلها وخداعها وزواجها بالحيلة وخيانتها
تخلَّلَ سُكون الليل دويُّ طلقة أطلقها أبو سعيد من غدّارته، وسمعها جميع أهل القرية. تلك الطلقة اخترقت أذنه اليمنى، فاليُسرى، وأردته. وفي الصباح وُجد جثَّةً تحت شبّاك منْزله، وهو المنْزل الأخير الذي وَقفَ أمامه، والمنْزل الوحيد الذي لم يحُاول سرقة أسراره. فيكون بذلك قد وقف أمام جميع بيوت القرية
قبل طلوع الفجر توارت زهرة وتوارى رستم أفندي، وفي مساء اليوم عينه ووري أبو سعيد، مع غدّارته، في جبّانة القرية. ولعلّه الآن، من خَلف شَاهِدِ قبره، يَسترق السمع إليّ وأنا أروي هذه القصّة، مع فارق وحيد هو أنّه لن يُطلق عليّ النار. فلم يَبق منه سوى عظامٌ وجمجمةٌ مَثقوبة عند الأذنين، وقد تآكل غدّارتَه الصدأ، ولم تعُد صالحة. فالقصّة التي نَرويها حدثت منذ أكثر من مئة عام
وإذا تساءل القارئ عن سعيد، ابن زهرة ورستم، فبحسب الأخبار التي تناقلتها العجائز وبلغت إلينا، أنه ذهب في باخرة مع عمّه إلى البرازيل، وتزوّج وأنجب، ولم يَسمع شيئًا عن هذه القصّة، ولعلّه لن يَكترث لسماعها. ففي البُلدان الأجنبيَّة ليس عند الناس آفة استراق السمع وتَناقُل الأخبار
أما في بلادنا فالكارثة أنّ في كلّ قرية وفي كلّ بيت هناك زهرة وأبو سعيد، وغدّاراتهم أكبر بكثير من غدّارات ذلك الزّمان، ويُمارسون غَدرًا يفوق بلا قياس ما حدث من غدر في تلك القرية الآمنة التي شتّت أهلها الأقاويل ومزّقتها الأحقاد. ونحن إذ نروي هذه القصّة، نسأل الباري تَعالى الحماية من نميمة النمّامين وغَدر الغددرين
العِبَر
قصة الدجاجة ونَثر ريشها: كيف نلتقطه بعدها؟ كذلك النميمة لا يمكن إصلاحها وتدارك ما عملناه
هل يُخرج النبع ماء عذبًا ومالحًا معًا؟ لسانُك دفة السفينة، تقودك إلى الهلاك أو إلى ميناء الأمان (يعقوب
لا تخرج من أفواهكم إلّا كلّ كلمة صالحة تفيد السامعين عند الحاجة
ليتجنب الإثم مَن يذكر اسم خالقه
إجعل حارسًا لفمي ورقيبًا على باب شفتيّ
لا تُشارك في خطايا غيرك
لم يعرف المكر لسانه
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس أعيُن
عندما نلتقي بإنسان لأول مرة نريد أن نبحث في عيوبه، لكي نتكلم عليه. لكن كلّنا عيوب
لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك
قالوا إنه شارد العقل (نميمة
من راقب الناس مات همًا
لا أحد يصدّق أحدًا
يقول الإنكليز: “Put your shoe in your mouth!” أي أُصمت (ضع حذاءك في فمك) قبل أن تتكلّم على أحد)
يا أيها الناس عليكم بأنفُسكم
في قديم الزمان، أيام كانت بيوت القرى بدائيَّةً يسهُل على الآذان اختراقُها وسَماع ما يحدُث في داخلها، والناس يَخشون الفضيحة أكثر مما يخشون العقارب والذِّئاب، والرجال يتباهون بالبُطولات وبامتلاك الخناجر والغدّارات، حدثَ أنّ قريةً بدأت تُهاجمها الثعالب وتأكل العنب والدجاج. اتفق أهلها على تكليف أبو سعيد بالحراسة لأنه قويّ البُنية ويملك غدّارة
كان أبو سعيد فضوليًّا، فأخذ في كلّ ليلة يقف تحت نوافذ البيوت ويَسترق السَّمع إلى ما يَدور من أحاديث، وفي الصباح يُخبر زوجته زهرة، التي كانت في الصبحيّات تُخبر بعض النساء ما تسمعُه من زوجها، فتَنتشر الأخبار وتُفضَح الأسرار. وكان أبو سعيد يستمتع بعمَله، وعندما يُشاهد ثعلبًا كان يُطلق النار في الهواء من دون أن يَقتله، ليبقى في وظيفته ويَستمر في التنصّت على أحاديث أهل القرية
وذات يوم ذاع الخبر أنّ رستم أفندي وصل إلى القرية من اسطنبول، وهو نازلٌ في بيت المختار. لم يُصدِّق أبو سعيد متى يأتي الليل حتى يكتشف سرّ القادم الجديد. فذهب إلى "وظيفته" باكرًا في تلك الليلة، ووقف تحت نافذة بيت المختار، يستمع إلى ما يُقال
ويا للهول! فما سمعه أطار صوابه، ولم يَستطع أن يَستمرّ في الاستماع، فسدّ أذنيه وراح يَعدو بعيدًا. ومثل مَجنون لا يدري ماذا يَفعل، أخذ يُطلق النار من غدّارته في الهواء، طلقةً بعد أُخرى، حتى اعتقدَ أهل القرية أنّ هناك هجومًا كبيرًا للثعالب
ما سمعه أبو سعيد من أسرار في عتمة ذلك الليل يَفوق في هَوله، بلا قِياس، الأسرار التي سمعَها منذ استلامه الحراسة. وما سمعه أطار صوابه. سمع رستم أفندي يُخبر صديقه الحميم المختار أنّه لا يزال يحبّ زهرة، وهو على علاقة غرام بها منذ عشرين عامًا، وهي حبلت منه، لكنّه رفض أن يتزوّجها فغادر إلى اسطنبول. وعرَفَ- ويا للعار- أنّ سعيد هو ابن رستم أفندي! وأنّ زهرة بعد حبَلها خدعت أبو سعيد وتزوّجته، لأنه كان مُغرمًا بها، بينما هي لا تُحبُّه، وأنها خانته وقابلت رستم أفندي عدَّة مرّات بعد الزواج
دخل أبو سعيد منْزله وهو يُطلق النار من غدّارته، ويلعَن ويكيل الشتائم لزوجته، التي أدركت للفور أنّ فُضول زوجها، كعادته، قَاده إلى معرفة السرّ الذي ترتعد فرائصُها لمجرّد التفكير بأنّه سيُكشَف يومًا. وفَهِمَ لماذ تمارضت في تلك الليلة، فقد كان قَصدُها أن تُثنيه عن الخروج خشية أن يَسترق السمع تحت بيت المختار ويعرف السرّ الذي دفنته في صدرها منذ عشرين عامًا
أدركت أمّ سعيد مَغزى عودة رستم أفندي، لأنّ العاطفة التي تربطُهما جارفة، والشهوة نارٌ آكلة لم تَقوَ على إخمادها السنوات العشرون. ولم تقرأ زهرة في كلّ ما حدَث سوى تجدّد حبّ رستم أفندي المضطرم لها. ذلك الشعور جعلها عديمة الاكتراث لردّة فعل زوجها، فلم تخشَ شيئًا مما قام به. بل إنّ ما حدث زادها حبًّا لرستم أفندي ورغبةً جارفة في لقائه
هرولت أم سعيد إلى خارج المنْزل، وأبو سعيد يَعدو وراءها وهو يُطلق النار في الهواء ويصرخ بأعلى صوته: "يا عشيقة رستم أفندي، يا خائنة، عليك ألف لعنة! هكذا إذن! سعيد ليس ابني يا عاهرة." كان المـَشهدُ فريدًا، لم يرَ أهل القرية مثله، وهم يَستمتعون به أيَّما استمتاع، أكثر بكثير مما كانوا يَستمتعون بالأسرار التي كان أبو سعيد يَبوحُ بها
ضاعت زهرة في عتمة الليل، ولم يستطع أبو سعيد اللحاق بها، فعاد أدراجه. ولا يَدري أحد ما إذا كانت زهرة التقت رستم أفندي في تلك الليلة. لكن لم يُسمَع عنها شيء بعد ذلك
قَبلَ طلوع الفجر غادر رستم أفندي القرية خشية الفضيحة، لأنه كان متزوّجًا. وأدرك أهل القرية ما كان يَعمله أبو سعيد، وكيف كان يَسرق أسرارهم. أما الآن، فلو وقف تحت نوافذ منازلهم، لما سمع سوى قصَّة واحدة: قصَّة ما حدَثَ في تلك الليلة المشؤومة التي انقلبت عليه سمًّا زُعافًا، وقصّة غَرام زوجته برستم أفندي وحبَلها وخداعها وزواجها بالحيلة وخيانتها
تخلَّلَ سُكون الليل دويُّ طلقة أطلقها أبو سعيد من غدّارته، وسمعها جميع أهل القرية. تلك الطلقة اخترقت أذنه اليمنى، فاليُسرى، وأردته. وفي الصباح وُجد جثَّةً تحت شبّاك منْزله، وهو المنْزل الأخير الذي وَقفَ أمامه، والمنْزل الوحيد الذي لم يحُاول سرقة أسراره. فيكون بذلك قد وقف أمام جميع بيوت القرية
قبل طلوع الفجر توارت زهرة وتوارى رستم أفندي، وفي مساء اليوم عينه ووري أبو سعيد، مع غدّارته، في جبّانة القرية. ولعلّه الآن، من خَلف شَاهِدِ قبره، يَسترق السمع إليّ وأنا أروي هذه القصّة، مع فارق وحيد هو أنّه لن يُطلق عليّ النار. فلم يَبق منه سوى عظامٌ وجمجمةٌ مَثقوبة عند الأذنين، وقد تآكل غدّارتَه الصدأ، ولم تعُد صالحة. فالقصّة التي نَرويها حدثت منذ أكثر من مئة عام
وإذا تساءل القارئ عن سعيد، ابن زهرة ورستم، فبحسب الأخبار التي تناقلتها العجائز وبلغت إلينا، أنه ذهب في باخرة مع عمّه إلى البرازيل، وتزوّج وأنجب، ولم يَسمع شيئًا عن هذه القصّة، ولعلّه لن يَكترث لسماعها. ففي البُلدان الأجنبيَّة ليس عند الناس آفة استراق السمع وتَناقُل الأخبار
أما في بلادنا فالكارثة أنّ في كلّ قرية وفي كلّ بيت هناك زهرة وأبو سعيد، وغدّاراتهم أكبر بكثير من غدّارات ذلك الزّمان، ويُمارسون غَدرًا يفوق بلا قياس ما حدث من غدر في تلك القرية الآمنة التي شتّت أهلها الأقاويل ومزّقتها الأحقاد. ونحن إذ نروي هذه القصّة، نسأل الباري تَعالى الحماية من نميمة النمّامين وغَدر الغددرين
العِبَر
قصة الدجاجة ونَثر ريشها: كيف نلتقطه بعدها؟ كذلك النميمة لا يمكن إصلاحها وتدارك ما عملناه
هل يُخرج النبع ماء عذبًا ومالحًا معًا؟ لسانُك دفة السفينة، تقودك إلى الهلاك أو إلى ميناء الأمان (يعقوب
لا تخرج من أفواهكم إلّا كلّ كلمة صالحة تفيد السامعين عند الحاجة
ليتجنب الإثم مَن يذكر اسم خالقه
إجعل حارسًا لفمي ورقيبًا على باب شفتيّ
لا تُشارك في خطايا غيرك
لم يعرف المكر لسانه
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس أعيُن
عندما نلتقي بإنسان لأول مرة نريد أن نبحث في عيوبه، لكي نتكلم عليه. لكن كلّنا عيوب
لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك
قالوا إنه شارد العقل (نميمة
من راقب الناس مات همًا
لا أحد يصدّق أحدًا
يقول الإنكليز: “Put your shoe in your mouth!” أي أُصمت (ضع حذاءك في فمك) قبل أن تتكلّم على أحد)
يا أيها الناس عليكم بأنفُسكم